عدد الرسائل : 26 التقييم : رقم العضوية : 4 الإشراف : تاريخ التسجيل : 27/11/2008
موضوع: شؤون المغتربين العرب الخميس ديسمبر 04, 2008 1:05 pm
شؤون المغتربين العرب
كيف وصلت السيدة لطيفة إلى دار العجزة وكبار السن الواقع في إحدى ضواحي ملبورن ، لا أحد يعرف السبب ، حتى هي نفسها لا ترغب في الحديث عن الأسباب التي أدت بها إلى العيش في هذه الدار ، ولا الحديث عن الأسى الذي يضفي على ملامحها لمسة حزن وعذاب .
في كل صباح تخرج متمشية ببطئ ، وتعرج على قدميها الواهنتين ، لتزور السوق الصغير في الحي ، والقريب من شاطئ البحر ، لتجلس على مقعد في الرصيف هناك ، وبصحبتها أكورديونها القديم ، والذي تربطه بها علاقة حميمة من نوع آخر ، علاقة يصعب على من لم تضطهده الحياة ولم يقرصه القدر ويسقيه مر العذابات أن يفهم سرها ، وماذا تعني بالنسبة للسيدة لطيفة ، فها هي تملأ المكان بألحانها العذبة الجميلة والمتألمة في نفس الوقت ، تعزف للمارة قطعاً موسيقية نادرة ، تشدك إليها بقوة ، ولا يمكنك أن ترفض دعوتها لروحك بالتحليق مع أنغامها ، عالياً ، كطير يُفتش عن أمه التي أضاعها في غمرة الحياة ومشاكلها ، وعن بقية دفء وحنان افتقدهما ، هكذا تتسمر في مكانك وأنت تنظر إلى أمواج البحر ، لتعيدك إلى أيام زمان ، أيام الألفة والمحبة ، أيام التفاني والترابط العائلي وصدق العلاقات البشرية .
هذه الموسيقى والألحان الناعسة الرقيقة ، استحوذت على نفسي وجذبت اهتمامي ، حيث وصلت إلى مسامعي من بعيد ، وعندما وصلت إلى حيث مصدر الصوت ، كانت مفاجأة لي ، فالذي يعزف هي امرأة عجوز تجاوزت السبعين من عمرها ، ولكنها ما زالت تحتفظ ببعض من جمالها وقوتها . انقبضت روحي وتألمت نفسي عندما وقعت عيناي عليها ، فكرت بأن أرمي لها ببعض النقود في غطاء الأكورديون الذي فرشته على الأرض ، بشكل عشوائي ، حيث كانت هناك بعض النقود المتناثرة على أطراف جوانبه .
نظرت إليها بإمعان وتأمل وتملكتني غصة وذابت مشاعري بتألم عندما بادلتني النظرات وبدأت أرى بوضوح تجاعيد وجهها التي رسمتها أيام العمر ، وصعوبة الحياة وقهر الأيام ، ناهيك عن الآلام التي يهديها إلينا أقرب الناس إلى قلوبنا . شيء آلمني جداً في هذه المقارنة ، وسرت في جسدي القشعريرة ، لمجرد التفكير ، بأن وراء هذه التجاعيد وهذا الحزن الذين يرتسمان على وجه امرأة قطعت كل هذه السنين ، هو الجحود ونكران الجميل ممن وهبتهم حياتها وعقلها وفكرها ، وعندما وقفوا على أرجلهم واشتدت سواعدهم ، تنصلوا من الوفاء لمن قدمت لهم يد المساعدة والعون . كيف لا ونحن نقرأ ونرى ونسمع الكثير من هذه المشاهد اليومية المؤلمة .
اقتربت منها ، وبصوت خافت شكرتها على روعة عزفها ، وصدق أحاسيسها التي تنزف ، عبر اللحن الحزين الذي انتهت من أدائه للتو ، لم أكذب عليها أو أجاملها ، فعلاً كانت تعزف موسيقى خالدة ورائعة ، موسيقى لا يمكنك سماعها في غير هذا المكان ومن غير هذه الإنسانية بالذات ، حقيقة إنها تعزف بإتقان وسحر غريب ، يسيطر على مشاعرك ، فتقف مشدوهاً وأنت تستمع إلى أنغامها وتنظر إلى حركات يديها وأصابعها وهي تضغط على مفاتيح الأكورديون ، وتتمايل مع اللحن ، إنه السحر بعينه .
بعينين دامعتين فيهما وميض عرفان وشكر نظرت إليّ ، وهي تتابع عزفها للحن ينتمي إلى عالمها الخاص ، لحن يعود بها إلي تلك الأيام الجميلة ، المليئة بذكريات سعيدة وحزينة في آن واحد . - ماذا تحب أن تسمع لأعزف لك ؟
سألتني بلكنة إنكليزية متقنة ، وبصوت يتهدج ويئن من الألم ، ( يبدو أنني ذكرتها بمن فقدتهم وابتعدوا عنها تاركين الأسى والحزن والحسرة مؤونتها للأيام القادمة ) . عيناها الدامعتان .. نظراتها ، تسافر عبر الأفق البعيد ، وزرقة البحر والطيور المحلقة في السماء ، محملة إياها موسيقاها وألحانها التي تتحدث عن ذكريات وزمن بعيد .
- أي شيء يا سيدتي .
أجبتها ، وشعرت بألم عميق يعتصر قلبي ، هذا اللحن الذي تعزفينه الآن جميل جداً ، تابعي عزفه ، أرجوك لا تتوقفي ، وبدت على وجهي علامات التأثر والإعجاب بهذا اللحن الذي يجمع الأصالة الفنية ويذكرني ببلادي وأهلي الذين تركتهم هناك بعيداً .
- من أي بلد أنت يا ولدي ؟
سألتني بصوت هادئ ، يدل على أنها ارتاحت إلى وجودي وتعاطفي معها وتأثري الواضح بموسيقاها.
- من مدينة بيت لحم ، مدينة السلام ، من فلسطين .
أجبتها بفخر واعتزاز، وفجأة انتفضت من مكانها ، وسرت رعشة في جسدها النحيل ، عيناها اللتان بدتا وكأن الحزن هو الساكن الوحيد فيهما ، ومضتا ، وكأن لمسة دفء دخلت إلى نفسها ، فحركت مشاعرها ..